الناقد / خالد رسلان - يكتب ( سامح عثمان والمد السكندري ) فصلا من كتاب ( الطليعة في المسرح المصري من المركز إلي الهامش ) الكتاب الفائز بجائزة الدولة التشجيعية 2014

سامح عثمان .. والمد السكندري

تعد الحركة المسرحية السكندرية من أهم وأكبر الحركات في مصر، بداية من ثمانينيات القرن السابق إلى وقتنا هذا، ولعل ذلك جاء لسببين رئيسين ، الأول تمثل في اتساع رقعتها في الممارسة العملية بشكل منقطع النظير بالنسبة لبقية المحافظات، والثاني انفتاحها الواسع النطاق على الثقافة الغربية، ومن هذا المنطلق - وبفعل هذين السببين - اكتسبت الحركة حق السبق في كافة الأشكال المسرحية المستحدثة، والتي انتشرت بعد ذلك على التوالي في كافة أقاليم مصر، بل واقتحمت العاصمة (القاهرة) أيضًا من خلال الفرق المستقلة والحرة، والتي حاول مسرح الدولة استقطابها مؤخرا .

والحقيقة التي لا يجب أن نغفلها على الرغم مما ذكرناه في السطور السابقة، هي أن هذا المد الذي قامت به تلك الحركة لم يكن ليتسنى له الفعالية الحقيقية، من دون حساسية مجموعة من الموهوبين المسرحيين تجاه المتغيرات الاجتماعية التي يتعرض لها واقعهم، فقد بدأ يظهر على السطح وعيا ضمنيا لدى هؤلاء بأن هناك عالما يتغير من الجذور ، وهو ما أدى إلى رؤية مغايرة؛ من حيث المعنى والبنية المشكلة له ، وفي ذات الوقت لم تكن تلك الرؤية وليدة المؤثرات المصنوعة التي خلفها المهرجان التجريبي الذي كان يقام في القاهرة وأفرز مجموعة من العروض المشوهة التي تعتمد في إنتاجها على الدعم الثقافي الخارجي الذي تحتكره مجموعة من المنتفعين والانتهازيين ، أو حتى كما حدث في الماضي مع توفيق الحكيم عندما حاول استنبات مسرح العبث في الثقافة المصرية في مسرحيته الشهيرة "يا طالع الشجرة"، وإنما رؤية امتلكت شعورا فعليا بالسياق التاريخي، وبموضوعية أكثر لم تكن تلك الرؤية حكرا على المسرح السكندري وحده، بل امتدت إلى كافة ربوع مصر ، إلا أن الإسكندرية تظل لها السبق والريادة الطليعية.

ومن قلب تلك الحركة تظهر لنا تجربة خاصة وفريدة في الكتابة الدرامية للمسرح ، وهي تجربة سامح عثمان، التي جاء على شاكلتها فيما بعد العديد والعديد من الأعمال الدرامية بل والمسرحية أيضًا ، فقد استطاع عثمان أن يضع بصمة لها خصوصية بالغة الأثر على الحركة المسرحية في مصر عامة، رغم التهميش والتعتيم اللذين كانت تتعرض له أعماله- ومازالت حتى الآن- على المستويين الرقابي والفني ، ما نتج عنه عدم نشرها . فعلى سبيل المثال لا الحصر ، في الوقت الذي يتم فيه رفض مسرحية "القطة العميا" من قبل كافة لجان القراءة التابعة للمؤسسات الرسمية في القاهرة والهجوم الشرس عليها (عام 2003)، يتم تناوله من قبل ثلاثة مخرجين مختلفين عبر عدة أعوام، ومؤخرا قدمته فرقة كرييشن جروب في مصر والمغرب وفرنسا وألمانيا وتونس وإسبانيا، وترجم في كتيب للفرنسية والألمانية وتم توزيعه مع العرض ، إضافة إلى استخدام النص كعينة بحثية في ثلاث رسائل دكتوراه لباحثين شباب.

        وتكمن أهمية عثمان الحقيقية في ذائقته الدرامية الجديدة التي لم تظهر من قبل، وشكلت صدمة كبيرة بالنسبة لأغلب القائمين على المسرح المصري بأشكاله المتعارف عليها والتقليدية إبداعًا وتنظيرًا وتعرضوا لأعماله، تلك الصدمة التي خلقت هجوما عنيفا تارة ، وتوجسًا وريبة تارة أخرى، ولعل ذلك يعود -بشكل رئيس- إلى ما تتسم به كتاباته الدرامية من إعادة النظر والتشكيك في كافة اليقينيات المطروحة في الخطابات الرسمية والسخرية منها ، الأمر الذي جعل من تقنية الجروتسك – موضوع الدراسة - تربة خصبة لديه في تشكيل مادته الإبداعية، ليصبح لأول مرة ذا خصوصية داخل المنتج المسرحي المصري، وممهدًا الطريق للروح الكرنفالية التي تحدثنا عنها في الفصل السابق، نظرا لكونه عنصرا رئيسا مكونا لها، فكل ما هو راسخ وثابت ويقيني يتعرض للسخرية واللعب الفكاهي الصارخ بكافة أساليبه ومصادره ، وهو ما يجعل خطابات القوة دوما على المحك في دراما عثمان ، بشكل بالغ الجرأة، يصل لحد إمكانية اختراق التابوهات الرئيسية، أمام متلقٍ يضحك ضحكة مكتومة مفزعة، ليصبح الجروتسك إحدى وسائل المقاومة بشكل غير مباشر.

ويظهر الجروتسك لدى عثمان في ثلاثة محاور رئيسية جامعة لثنائيات شديدة التنافر، وهي: (اللعب المميت – السخرية من الأسطورة – "حيونة/تشيؤ" الإنسان)، ذلك الجمع الذي قام على كشف زيف كافة مفاهيم الماضي، التي كان لها سيطرة بالغة على المتلقي من قبل، بكل ما تحمله من جدية ورسوخ في الوجدان العام، وهو ما سنقوم بتوضيحه في أثناء التحليل.

أولاً : اللعب المميت.

تعد تلك الثنائية من أهم التقنيات الجروتسكية في دراما عثمان، والتي لها أثر فني بالغ الوضوح في تشكيل بنيتها الدرامية وخطابها النهائي، وما نقصده هنا باللعب، هو لعب الأطفال تحديدًا، فقد قام بتوظيف ألعاب الأطفال خاصة داخل الموروث الشعبي لخدمة أغراضه الفنية، وتشكيل جروتسك بالغ الخصوصية من خلالها، عن طريق جعل اللعبة داخل الدراما مثيرة للأسى وكاشفة لتناقضات الواقع، وبذلك تزول عنها براءتها الطفولية الراسخة في الذهن ليتم تشويهها بالكامل، فاللعبة تعيد إنتاج الواقع وتعبث به ، بالتالي تغيب عنها المتعة وتصبح سببًا رئيسا في الألم، فعلى الرغم من "أن اللعب هو النشاط الوحيد الذي لا يهدف الإنسان حين يمارسه إلى غرض محدد سوى المتعة الناتجة عن اللعب ذاته ." ([1]) إلا أننا نجد أنفسنا أمام مجموعة من الشخصيات الدرامية عاجزة عن الحصول على تلك المتعة بسبب أحلامها التي غالبًا ما تظهر مجهضة غير قابلة للتحقيق داخل اللعبة، ونستطيع أن نقول – بصيغة أخرى- إن ممارسة اللعبة على المستوى الدرامي تمثل الرغبة والعقبة لدى الشخصيات في الوقت ذاته، فاللعبة هي سبب المتعة وسبب ضياعها، ويظهر ذلك واضحًا في مسرحية "القطة العميا" – التي سبق ذكرها- بداية من العنوان الرئيس الذي يحيلنا إلى إحدى ألعاب الأطفال الشهيرة، وهي لعبة تضم مجموعة من الأطفال، يتم ربط عيني أحدهم بمنديل ويحاول الإمساك بالآخرين الذين يهربون منه ولا يراهم، ومن يقع ويتم الإمساك به يقوم بدور "القطة العميا" لتعاد الدورة مرة أخرى، ومن تلك الآلية التي تعتمد عليها قواعد اللعبة، تخرج الدراما وخطوطها الرئيسية، من خلال ست شخصيات تتحدد ملامحها الرئيسية في رغباتها التي تتمناها، وهو ما يذكره المؤلف في التعريف الإرشادي قبل بداية الدراما " ف1: عاوزه عروسة بتقول بابا وماما- ف2: عاوزه نص رغيف فيه حتة لحمه- ش1: عاوز بنت ناعمه لابسه فستان أزرق- ش2: عاوز سيف مايكونش خشب ولافيه لامبه- ش3: عاوز كتاب... لكن مكتوب بحق وحقيقي- ش4: عاوز أي حاجه والسلام"([2])، فكل شخصية من الشخصيات السابقة تقوم بدور القطة العميا مرة واحدة، من خلال تجسيد حكايتها التي تعكس بحثها عن رغبتها المفقودة وتحاول الإمساك بها، لكنها تعجز عن ذلك، والعجز هنا الذي تتسم به الشخصيات يلقي بظلاله على أزمات الواقع الفعلي الذي يعيشه المتلقي، فتصبح اللعبة في منطقة رمادية بين المتعة والألم، وذلك يعود إلى استمرار غياب الرؤية لدى الشخصيات الدرامية، فإذا كانت اللعبة الأصلية تعاد الدورة فيها بعد الحصول على الرغبة عن طريق الإمساك بها متجسدة في شخص ما، فإننا داخل الدراما تعاد الدورة في شخص آخر بعد فشل الحصول على الرغبة، والتي تحيلنا في كل مرة إلى أحلام مجتمع بالكامل غير قادر على تحقيقها، لتصبح صفة العمى هنا ليست صفة مصطنعة داخل اللعبة، يتم استخدامها فقط على سبيل محاكاة القطة للحصول على المتعة، وإنما صفة فعلية يعاني منها الأبطال؛ حيث يبدأ الحدث الدرامي بلعبة يقوم بها مجموعة من الأطفال والتي تظهر في جملة " أدينا عيال وبنلعب"، وينتهي بواقع مرير يعيشه المجتمع، ونستطيع تلمس ذلك بوضوح في المشهد الأخير:

"ش4: يعني إيه .. إتعامينا خلاص .. مش ها نشوف تاني ؟ ش1:شخبطة. ش4: لخبطة.ف1: هيصة ومليطة. ش3: ألوان سايحة. ف2: كرابيج. طايحة. ش2: مش باين حاجة. مج: انتوا عاوزين إيه بالظبط. ش1: دي بواقي من بيت متهدم. ش4: منبه بيأخر ويقدم. ف1: تنورة في مولد بتلف. ش3: غولة ع الأحلام بتف.ف2: دبان ع السكر بيعف. ش2: مش باين حاجة. مج: انتوا عاوزين إيه بالظبط. ش1: دي أكفان طايرة. ش4: شاهد قبر. ف1: وطاويط دايرة. ش3: غابة صبر. ف2: وخريطة مرسومة رصاص .. وخريطة مرسومة بحبر. ش2: مش باين حاجة. مج: انتوا عاوزين إيه بالظبط .. انتوا عاوزين إيه بالظبط .. إحنا عاوزين إيه بالظبط . (هجوم علي الجمهور وذوبان كامل معه...مع ترديد الجمله) ." [3]

وبذلك تصبح ممارسة اللعبة بمعطيات مغايرة داخل الدراما تأكيدًا لما طرحناه حول الجمع المتنافر بين المتعة والألم، ومن هنا تتحقق العقبة من داخل قواعد اللعبة المتمثلة في فقدان البصر لأحد اللاعبين. ويحاول عثمان أيضًا تعميق ذلك التكنيك في كتابته أكثر باستعانته لمجموعة من الألعاب الثانوية داخل اللعبة الرئيسية "القطة العميا"، والتي غالبًا ما تعكس أزمة غياب الرؤية لدى الشخصيات، على سبيل المثال لا الحصر، لعبة "عروستي" الشهيرة التي تدور حول شيء مجهول الهوية لا يعرفه أحد الأطفال ويحاول معرفته من خلال أحاديث بقية الأطفال عن الشيء نفسه من دون ذكر اسمه صراحة ، لتصبح المهمة الرئيسية معرفة هذا الشيء، الذي يتحول داخل الدراما إلى كل الرغبات المفقودة ليصبح حل اللغز مستحيلا ، وبالتالي تكرار الجمل عبثيا.

وتتجسد قسوة اللعبة الطفولية أكثر في مسرحية أخرى من مسرحيات عثمان وهي " تسمحيلي بالرقصة دي" والتي تعتمد على لعبة شهيرة متمثلة في رقصة الأفراخ الصغيرة (كتاكيت) على الرمال الساخنة، والتي يلهو بها الأطفال ويصفقون لها في المدن الساحلية بالتحديد، فالأفراخ هنا تقفز بقدميها من شدة الألم بسبب سخونة الرمال، إلا أن الأطفال يعتقدون أنها ترقص، لكنه في الحقيقة رقص حزين، فاللعبة هنا على الرغم من بهجتها الشديدة التي تطرحه على الأطفال، إلا أنها تضعنا في مواجهة موقف شديد التناقض، متمثل في السعادة النابعة من مشاهدة الرقص، والقسوة بسبب غياب التعاطف مع الألم الذي تتعرض له تلك الأفراخ، ويستدعي عثمان ذلك الموقف في مسرحيته لتصبح شخصياته في معاناتها كما الأفراخ الصغيرة "البارمان : ( يضحك ) ... من أنتم إذن غير تلك الأقنعة؟ مج : نحن لسنا الأقنعه التى نرتديها .... نحن الحقيقة تتوارى خجلا خلف البسمات الصفراء .... خلف الدمعات المنكسرة .... نرقص كالأفراخ الصغيرة .... حفاة خلف الرمال الساخنة . البارمان : من أنتم ؟ ... عراة إلا من ملابسكم ... أنتم تلك الاقنعة مج : ( يكررون ) .... نحن لسنا الأقنعة التى نرتديها ..(يصدرون أصوات الكتاكيت من حوله والمشهد يتصاعد)" [4] . فيحاول عثمان تجسيد تلك اللعبة دراميا، بالاعتماد على الآلية الرئيسية فيها وهي شخص يتحكم في مجموعة من الشخصيات وجعلهم يرقصون ليشعر هو بالبهجة والسعادة، ويظهر ذلك الشخص المتحكم في صورة البارمان ومشغل الموسيقى في أحد الملاهي الليلية، التي يأتي إليها الناس للرقص، وكعادة عثمان يعتمد على مجموعة من الألعاب الثانوية التي تحمل الآلية نفسها الموجودة في اللعبة الرئيسية، مثل لعبة الرقص على الموسيقى، والتي يتحكم فيها مشغل الموسيقى في الرقص، فإذا أوقفها توقف الجميع في حالة الثبات، ومن لا يستطيع التوقف بسبب اندفاع جسده يصبح خارج اللعبة، وبهذا المنطق تتحول الشخصيات إلى دمى ترقص بـ (الزمبلك)، يتحكم في تعبئته مشغل الموسيقى بشكل أقرب إلى علب الهدايا في الحلى النسائية، هذا إضافة إلى أن شخصية المسيطر والمتحكم في الرقص (البارمان) تعكس أزمة غياب التعاطف مع الراقصين الذين يتألمون في أثناء رقصهم، الموجودة في اللعبة الأصلية، لتتحقق علاقة ثنائية تعد مادة خصبة لخلق الجروتسك بشقيه المتنافرين في اللحظة ذاتها (الضحك المبكي)، وهو ما يتأكد أيضًا في العلاقة المتناقضة بين الفضاء الدرامي (مرقص أو ملهى) الذي من المفترض أنه مكان للمتعة والحصول على أقصى درجة من درجات النشوة الحسية، والأحداث التي تدور فيه وتنسج حكايات عن شخصيات تشعر بالألم جراء غياب رغباتها عن التحقق بطريقة أقرب لنص "القطة العميا"، والذي تحدثنا عنه سابقا. لكن بطريقة مغايرة، حيث يتم منع الرغبات بواسطة مجموعة من المعايير الاجتماعية، والتي تأخذ شكلًا ميتافيزيقيًا ليصل الكاتب بشكل فانتازي إلى استحالة تحقيق تلك الرغبات، على الرغم من أنها رغبات إنسانية بسيطة (رغبة في أكل التفاح – رغبة في الارتباط بفتاة – رغبة في البحر ...إلخ)، وهنا تقوم اللعبة بدور قوي في كشف زيف تلك المعايير الاجتماعية التي يتم تضخيمها بشكل أقرب إلى الحكايات الخرافية بهدف السخرية منها وإظهار مدى هشاشتها، وهو ما يؤدي بالمتلقي إلى التحرر من تلك القيود/المعايير، لتقوم اللعبة بدور مغاير عن دورها الأصلي في أوساط الأطفال، حيث يقوم الطفل -حسب التفسيرات الفرويدية- بتجسيد المعايير الاجتماعية داخل اللعبة ليستمتع بها فيتقبلها على أرض الواقع بعد أن توحد معها وصارت نابعة منه في محاكاته لصورة (الأب – الأم – المدرس – الشرطي ... إلخ)، أما في حالتنا الدرامية يتم تجسيد تلك الشخصيات في اللعبة للسخرية منها ومن معاييرها بأداء مصطنع داخل الحكاية الخيالية ، وهو ما يتكرر في مجموعة من المسرحيات الأخرى، على سبيل المثال لا الحصر، (أكمل مكان النقط – تحت الترابيزة – أربعين على كام – آخر حبة ألوان- يمامة بيضا).

        ومن أكثر النصوص نضجًا لعثمان في توظيف ألعاب الأطفال داخل الدراما، مسرحية "فانتازيا الهروب"، والتي أراها نقديا تجربة شديدة تميز رغم عدم عرضها على خشبة المسرح، حيث تقوم المسرحية على خمس لوحات مختلفة، ويحكم تلك اللوحات لعبتين رئيسيتين، الأولى تحكم منطق تكوينها الداخلي، والثانية تحكم منطق تتابعها، في بنية هندسية بالغة النظام على المستوى الكمي. اللعبة الأولى هي لعبة الهروب التي تسمى في بعض الأحيان عسكر وحرامية، أو المساكة، والتي تتلخص في ثنائية (الشرطي) ممثل القانون، والخارج عن هذا القانون ويتم ملاحقته من قبل الشرطي ويحاول إمساكه عن طريق اللمس، ومن هذا المنطلق تصبح التيمة الرئيسية الحاكمة للوحات هي الهروب من ملاحقة منفذ القانون، أما اللعبة الثانية الحاكمة لتتابع اللوحات هي لعبة " أكمل حيث انتهى الآخرون" ، وهي لعبة تلعب بأكثر من طريقة، لكن أشهرها تتابع مجموعة من الجمل، كل جملة يلقيها أحد الأطفال حسب ترتيبه المتفق عليه، وفق قاعدة محددة تنص على أن تبدأ الجملة بالكلمة التي انتهت بها الجملة السابقة عليها، وقد تكون تلك الجمل أمثال شعبية، أو أغاني شهيرة، تلك التقنية اعتمد عليها عثمان في مسرحية الهروب حيث تبدأ كل لوحة حكايتها المستقلة بآخر حدث في اللوحة التي تسبقها ، أي أن آخر حدث في لوحة ما يدخل في سياق مغاير مرتبط ببداية اللوحة التالية، ونستطيع على سبيل التوضيح أن نرصد ذلك التتابع كالتالي:

1-  تنتهي اللوحة الأولى بقذف اللاعب (1) الكرة بعنف.

2-  تبدأ اللوحة الثانية باصطدام الكرة برأس القط الأعظم، وتنتهي بهروب الفأر مع الصرصار.

3-  تبدأ اللوحة الثالثة بخروج الفأر والصرصار من بلاعة تحت سرير "حياة" (فتاة صعيدية)، وتنتهي بهرب "حياة" إلى الجبل للبحث عن عشيقها فارس.

4-  تبدأ اللوحة الرابعة بدخول حياة إلى قلب الجبل لتفاجأ بمجموعة من النساء يقيمون طقوسا لعبادة النار، وتنتهي بهرب حارسة النار من الجبل بحثًا عن أي رجل تمارس معه العشق.

5-  اللوحة الخامسة تبدأ بحارسة النار التي تدعو رجلا يتبول على الحائط بجانب سلم يلتف حوله ثعبان لممارسة الجنس، وتنتهي اللوحة بأن يلتهم الثعبان صغار العصافير التي تسكن في عشها أعلى السلم.

إن تلك الآلية تخلق لنا علامة ذات طبيعة مراوغة، يعاد تشكيل مدلولها باستمرار حسب السياق الذي تدخل فيه، بطريقة أقرب للاحتفالات الكرنفالية التي سبق الحديث عنها في الفصل الأول، والتي تعد سببًا رئيسيًا في الجمع بين الجليل والوضيع لتشكيل الروح الجروتسكية، داخل المشهد الواحد، ففارس عشيق حياة يعد مخلصًا لها في اللوحة الثالثة، وفي اللوحة الرابعة يتحول إلى قربان للآلهة وبالتالي مقدسًا، وفي اللوحة الأخيرة يصبح أي رجل يتبول في الطريق العام ويمارس الجنس مع أول امرأة تعرض عليه العشق، تلك المرأة التي كانت حارسة النار في اللوحة السابقة والتي انطبق عليها أيضا نفس الأسلوب، فبعد أن كانت ذات وضع جليل، في سياق طقوس عبادة النار داخل الجبل، أصبحت أقرب إلى العاهرات في اللوحة الأخيرة. والفأر في اللوحة الثانية بعد أن كان ذلك المتمرد الذي يدعو إلى شعارات المساواة والحرية في مملكة القطط، يصبح خائنا مجرد فأر وسط الآدميين يتم التخلص منه كحيوان ضار يعبث في أرضية المنزل على يد الجدة.

كما أن اللعبة تقوم بتشكيل الجروتسك من خلال قدرتها على الجمع بين الجدية والمرح في نفس الوقت، وذلك يتضح لنا عندما تقدم لنا كل اللوحات موضوعات تثير قلق المتفرج داخل إطار اللعب الطفولي، القلق الذي يمتد بعد زمن التلقي وخارج فضائه، لما تمتلكه اللعبة - داخل النسق الدرامي- من قدرة على إحداث صدمة نابعة من كشف قناع خطابات السلطة وآلياتها التبريرية التي يتم السخرية منها باستمرار بسبب طبيعة اللعبة التي تؤكد على ذاتها  وتقوم بكشف حيل المحاكاة والتقمص الكامل، فالحكم داخل لعبة كرة القدم والذي يعد صاحب السلطة التنفيذية في الملعب والمنوط به تطبيق القانون، يعاقب المجني عليه ويعمل على تهديده بطرده من الملعب في حال اعتراضه للحفاظ على تفوق القوي واحتلاله مكانة أعلى في المنظومة، وهكذا في لعبة القط والفأر، لابد من انتصار الكلاب والقطط على الفأر الصغير رغم ما يحمله الأخير من رغبة في تغيير المجتمع وتحرره لترسيخ مبدأ المساواة بين كافة أطيافه، ولعبة السلم والثعبان التي تعد محور اللوحة الأخيرة، لا مفر من أن يأكل الثعبان العصافير الصغيرة التي تسكن أعشاشها أعلى السلم فوق عامود النور كنتيجة حتمية.

النص في مجمله من خلال تقنياته المستخدمة – التي أشرنا إليها- ذات الجمع المتنافر يصل بنا أخيرا إلى حالة من اليأس والإحباط الشديدين نتيجة اكتشاف العمق الفكري من وراء اللعبة ومتعة ممارستها الظاهرية، فتكرار فعل الهروب يصل لدرجة العبثية، ويؤدي إلى إعادة إنتاج الأبنية هرمية الطابع، ليظهر لنا كيف أن هذا المجتمع الافتراضي عاكسا لواقع فعلي غير قادر على التجدد والتغيير، وهو ما تجسده مقولة الثعبان في اللوحة الأخيرة " الثعبان: نسيت أقولك إنه على راس كل شارع... كان فيه عامود منور فوقيه عصافير وتحته سلم نفسه ينام... أنا كسرت كل اللمبات... ونيمت كل السلالم" [5]. وتجسده أيضا نهاية المسرحية والتي يتم فيها الجمع بين كل اللوحات كمنظر مركب في حالة الثبات يسيطر فيها على مستوى الصورة الجانب الأقوى المهيمن على السلطة، واختفاء الضعفاء الذين يسعون إلى التغيير بسبب فعل الهروب.

" تضاء جميع اللوحات حيث نرى منظر مخالف لما بدأناه وهو الآتي:

لوحة 1: لاعبان وحكم وجمهور بدون كرة

لوحة 2: القط الوزير الخائن مربعًا يديه وعيناه لامعتان

لوحة 3: امرأة صعيدية عجوز تزرغد وبجوارها غغير

لوحة 4: راعية النار تشير لاتجاه ما وبنظرة شريرة

لوحة: مظلة ما عدا بؤرة مضاءة مسلطة على ثعبان يضحك.

(وبهذا ننتهي بشكل آخر غير ما بدأناه)

ثانيا: المحاكاة الساخرة للأسطورة.

تعد تلك التقنية من التقنيات المهمة في تشكيل الجروتسك لدى عثمان، ولعل أهميتها تنبع حقيقة في انتشارها الواسع داخل ابداعات الشباب في الألفية الجديدة، وتحديدا بعد ثورة يناير، ليتضح لنا الدور القوي الذي قامت به كتابات عثمان في الدراما المصرية الطليعية، والتي نستطيع أن نرصدها كعينة دالة على سبيل المثال لا الحصر في أحد إبداعات الشباب التي لاقت شهرة واسعة بعد الثورة، وهي مسرحية حلم بلاستيك تأليف جماعي وإخراج شادي الدالي، حيث سيطرت تلك التقنية على العمل بشكل ملفت رغم استخدامها على يد عثمان بعشر سنوات على الأقل، في فترة كانت تشكل فيه مثل هذه التقنيات صدمة كبيرة للمتلقي والنظام الرقابي الرسمي والعرفي التي استزرعته التيارات الدينية المتطرفة.

وتتلخص تلك التقنية في إعادة إنتاج الأسطورة الدينية بشكل ساخر، ويدعم تلك السخرية بطبيعة الحال اللعب الطفولي الحاكم للبنية الدرامية وقمنا بتحليله في المحور السابق، كجزء من مناهضة العوالم الافتراضية التي يعاد تشكيلها في العقل العربي والمصري بالتحديد وتسيطر عليه ، والتي يستغلها النظام الحاكم أولا ليكتسب صفة المطلق في بعض الأحيان، أو ثانيًا لتثبيت الوضع القائم من خلال الجماعة المأزومة التي تنتظر إعادة إنتاج الأسطورة على أرض الواقع وهو ما يجعلها عاجزة عن القيام بفعل الثورة، نظرا لانتظارها البطل المفارق الذي يحمل ملامح ميتافيزيقية ويصعب تجسيده داخل الواقع الفعلي، ومن هنا يعد هدم الأسطور بالسخرية منها، تهديدًا واضحًا للخطاب المهيمن على المنظومة بالكامل.

ونستطيع أن نرصد مثالا على "أولا" في مسرحية "تسمحيلي بالرقصة دي" من خلال شخصية " آكل التفاح" والتي تستدعي الخطيئة الأولى في النصوص المقدسة المتمثلة في منع آدم الأكل من شجرة المعرفة أو شجرة التفاح. ويتم تجسيد تلك الحكاية في الدراما بشكل كاريكاتيري ساخر تكشف لنا الأقنعة التي تختبئ وراءها خطابات السلطة التي تعمل على تحويل ما هو إنساني إلى إلهي مطلق، وذلك في المشهد المشهد التالي:

" ش٢ : هو التفاح حلو ؟ . ش١ : فاجر . ف٢ : فاسق . ف٣ : كافر . ش٣ : كل التفاحة على جنب من غير ما حد يشوفك و خلاص .... . ف١ : ( طفله ) ...لا .... ربنا حيشوفك . ش٢ : الجنة مليانة شجر و ورد .. أشكال وألوان .. فراش .. عصافير .. مراجيح .. أيوه .. الجنه فيها مراجيح .. مراجيح بتطلع لفوق قوى. ش٣ : هو فيه حاجة فوق الجنة ..؟ّ!. ش٢ : وفيه شجرة ... طارحة تفاح. ف٤ : إنت النص .. وأنا النص. ش٢ : أنا عايز التفاح .... ش١ : صلى .. خليك تبعد عن إللى إنت فيه .. استعيذ بالله من الشيطان الرجيم ... و صلى . ش٢ : ( يصلى ) ... يا رب .. عايز تفاح .. . ف٢ : قادرة العدرا تطهر قلبك وتغسله بمية الورد . ش٢ : ( صالبا ذاته ) يسوع المسيح ... امنحنى التفاحة. ف١ : عيب ... انت ما بتسمعش عن العيب. ش٢ : إيه الى يخلى اكل التفاح عيب ؟. ف٣ : ده إنت عيل ديلك نجس. ش٢ : أنا معنديش ديل ... أنا بنى آدم .... بس عايز تفاح. ش٣ : ثم إنت يا بنى معندكش مُكنة ... حتاكل التفاحة فين ؟. ف٤ : بس بس بس .... إنت نص ... وأنا نص. ش٢ : أيوه موافق ... أنا حموت عالتفاح. ش١ : امنعوه ... ده ح يجبنا الارض ... .  ( يستلون سيوفا ) . ش٢ : ولو ... أنا بحب التفاح. ش٣ : إنت مصر ؟. ش٢ : أيوه مصر ... أنا حاكل التفاحة. ش١ : إذن فلنغمس أيدينا في الدم ... ولنضربه ضربة رجل واحد ... ف١ : وهكذا.. يتفرق دمه بين القبائل. ش٣ : يا ابن نعير ... شربة ماء قبل رحيلك . ( يقترب منه ش1 ) ... إنى أرى أن نظهر له خلاف الباطن .. ونبطن له خلاف الظاهر. ش١ : ما هذه الرائحة ؟! الا تستحم يا رجل ؟. ف٣ : إنها رائحة النساء. ف٢ : فله واحدة فى الصباح .... وأخرى فى المساء. ش٢ : ( يركع رافعا يديه ) ... يارب أقولها لك وحدك ... ( يجتمعون حوله مقلدين الكفار فى فيلم فجر الاسلام .. يصفقون و يصفرون  ) . ش٢ : لا ... أنا حاكل التفاحة .. يعنى حاكل التفاحة. مج : لن تأكل التفاح .... ليس للتفاح مكان فى الصحراء القاحلة. ش٢ : حازرعه وأرويه واستناه يطرح .. وآكله . مج : لن تأكل التفاح .... لا يوجد له مكان بين حمول القافله. ش٢ : حاوسعله مكان .. وألا اقولكم انا حاشيله فوق ضهرى . مج : لن تاكل التفاح .... سناكله نحن. ( يجتمعون حول ف4 ....ما عدا ف2 ) . ش٢ : بس التفاحة دي بتاعتى ... بتاعتى ... واللهى كانت بتاعتى .. . ف٢ : بيس يا مان ... فكك من أى حاجة ... خد ... ولع سيجارة ... ( تقترب منه ) ما الدنيا الا جوينت كبير ... وكلنا دخان ... كل واحد فينا نفس .... باقولك إيه ... تسمحلى بالرقصة دى ... ( تشير للعازف ) ...  ادينا حاجة ميتال ... او راى .. خد اشربلك كاس ... ايه رايك فى طعمه ؟." [6] .

أما بالنسبة لثانيا ، نجد لها صدى أوسع ترديدًا في أعمال عثمان لتعكس الوعي الضمني التسعيني في سقوط البطل المخلص الفرد وزيف كافة الأساطير التي تحاول إعادة إنتاجه، وعثمان في هذه الأساطير لا يكتفي بالسخرية فقط، وإنما يعمل على الحط منها وتحقيرها، ومن أشهر الأمثلة على تلك السخرية الذي تتعرض لها الأساطير، نجده في مسرحية "أكمل مكان النقط" والتي تظهر فيها أسطورة نوح وإنقاذ البشرية من الطوفان، مستحيلة، نظرا لأن السفينة الآن أصبحت عبارة عن مبولة تتقاذفها المياه الصرف الصحي. وفي مسرحية القطة العميا يضيع خاتم سليمان في عرض البحر، وعصى موسى لا تستطيع أن تغرق سوى فرعون واحد ولا تستطيع أن تغرق كل الفراعين.

إن عثمان في تلك التقنية يحاول أن يسقط الأسطورة من مكانها المتعالي المفارق للواقع، ليضعها في نطاق المتغير الزماني، وهو ما يجعل الجروتسك هذه المرة يقترن بالرعب إلى جانب الضحك بعد تغيير مراكز القوة في تلك الأساطير، لما تمتلكه من قداسة في الوعي الجمعي، وذلك لتحريره منها، فبداية تحرير الذات تبدأ بتحرير الإنسان من أوهامه ليحتل وضعية جديدة في المنظومة الاجتماعية، فالمتلقي يتخلص من الرعب بعد اختلاطه بالضحك .   

ثالثًا: حيونة / تشيؤ الإنسان

إن حيونة أو تشيؤ الإنسان من أكثر التيمات شيوعًا في تشكيل الروح الجروتسكية في المسرح العالمي في الجمع بين الجليل والوضيع، والتي كان يسعى الكتاب من خلالها التأكيد على الشكل المثالي للإنسانية بعد أن تم تشويهها، وهو ما نستطيع تلمسه بوضوح في تيار الحداثة الأوروبية بداية من التعبيرية والدادية والسيريالية وصولا إلى مسرح العبث، ولا يختلف كثيرا عثمان من حيث الوظيفة في استخداماته لتلك الآلية، إلا إنه - نظرا لخصوصيته بالطبع- استطاع أن يعمل على تطويعها ليناقش من خلالها أزمات المجتمع المصري المعاصر، بهدف الكشف عن المنظومة الحاكمة لماهية الإنسان داخله. 

حيث تعكس مسرحية "القطة العميا" أزمة جيل بالكامل أصبح أشبه بالقطة العمياء، التي لا تستطيع تلبية أحلامها البسيطة داخل الحاضر الذي تعيشه، وهو ما يجعلها خارج حركة التاريخ ، في نقطة صفرية بين تاريخ مفقود بسبب انغلاقه وعدم قدرته على استيعاب المتغير الزماني، ومستقبل مجهول، ولعل ذلك نابع من البنية الذهنية للطبقة الوسطى- التي ينتمي لها الكاتب- التي بدأ يتخللها شعور باليأس نظرا لانهيار مشاريعها الكبرى، ووضعيتها القلقة بل والمروعة في المجتمع بين شقي رحى، الأول: ماضي يجب الثورة عليه لما يحمله من أنظمة أبوية رجعية غير قادرة على مواكبة العصر يعيش فيها الفرد في حالة قمع مستمر وخمول عقلي، والثاني –والذي يعد البديل للسابق- المشروع الغربي الذي يحمل حلم الديمقراطية والدولة المدنية بشكل مفتعل دون أن يكون وليد الحراك الاجتماعي، وهو ما يوقعنا في أزمة التبعية والخنوع  نظرا لمحاولات قتل الماضي نهائيا لتحقيق الحداثة. وقد شبه عثمان بوعيه الضمني هذا الموقف بموقف القطة العميا التي تكمن مأساتها الحقيقية في غياب الرؤية ومحاولات البحث عن رغباتها التي لا تتحقق، ونستطيع اكتشاف تلك البنية الذهنية بوضوح في المشهد التالي:

"ش1: ها شايفة إيه .. بصي كويس .. شايفة إيه؟. ف1: فضا .. فضا مليان دخان. مج: لست مباركة يا زرقاء.. لست مباركة يا زرقاء. ف2: إمنحي كل النوارس يا ابنتي حق العودة إلى شاطئك المقدس. ف1: منحتهم الحق يا أمي .. لكنهم ماتوا بأكل سمك مسموم. ف2: إذهبي فا أنتي مباركة. ش3: ها شايفة إيه دلوقتي. ف1: ألوان .. ألوان داخلة في بعض وشخبطة مش باين منها حاجة. ش2: بصي كويس .. بحلقي أوي. ف1: ألوان دخان شخبطة .. مفيش ملامح لأي حاجة .. أنتوا عاوزين إيه بالظبط ؟. مج: نريد الرؤية .. أمنحيها البركة .. لتمنحنا الرؤية.ف2: أنسيتم قولكم .. تقولوا .. من رحم الأم ولدنا .. كي يقتل بعضنا بعضا.. استأجرتم جاركم السفاح كي يقتل أباكم الجائر.. ويحكم.. لقد أورثتموه لحم أمكم. مج: من أصبح فوقنا .. أمس له علينا حق الإنحناء .. يمتطينا متى أراد .. ويفعلها .. يفعلها كيفما شاء. ف2: إذاً لا تنسوا وتذكروا جيداً أن هذا قولكم ..مج: من أصبح فوقنا .. أمس له علينا حق الإنحناء .. يمتطينا متى أراد .. ويفعلها .. يفعلها كيفما شاء" [7].

كما أن آلية الحيونة/التشيؤ التي يستخدمها عثمان تقوم بتعميق تلك البنية الذهنية أكثر في أعمال أخرى، حيث تعكس في بعض الأحيان وعيا ضمنيا يتمحور حول منظومة اجتماعية تعيد إنتاج ذاتها طول الوقت وغير قادرة على التغيير، وذلك نستطيع أن نراه في مجموعة الشخصيات التي تظهر بدون أي تطور معرفي في دورة التاريخ، وتعيد إنتاج ذاتها باستمرار مثلها مثل الحيوانات، أو تحتاج إلى فاعل خارجي يسيطر عليها ويقوم بتشكيلها مثل الأشياء (الجمادات)، وهو ما نجده واضحا في مسرحية "تسمحيلي بالرقصة دي"، فالشخصيات تتشيأ وتتحيون وبالتالي يتم تكرار مأساتها، التي لا يتعاطف معها أحد، طوال الدراما، ويتم فرض منطق درامي لها يحكمه الحتمية المبالغ فيها لدرجة العبثية. ولا يسعى فقط عثمان من خلال استغلاله لتلك الآلية أن يصور إعادة إنتاج المنظومة فقط، وإنما أيضا للتأكيد على ثبات مراكز القوى فيها وتدرجها البنائي، وكأن التاريخ لا يتحرك، وهي السمة التي يتسم بها الحيوانات التي لا تستطيع أن تغير من وضعيتها داخل الواقع الفعلي، فالفأر رغم كل محاولاته الثورية في مسرحية فانتازيا الهروب يظل فأرا ولا يستطيع أن يتجاوز وضعيته وسط مملكة القطط والكلاب البلدوج والصراصير، والتي تحكمها تراتبية القوة، ويتأكد هذا عبر تكرار هروب الضعفاء من كافة اللوحات، وأكل الثعبان للعصافير الصغيرة في النهاية.

كما أن عثمان يحاول أن يواجه من خلال الحيونة أيضا، أزمتي العنصرية وغياب قبول الآخر التي استشرت في المجتمع المصري بداية من السبعينيات، بعد الانفتاح الاقتصادي الذي أحدث الهوة التي بدأت تتزايد بين الطبقات، وصعود تيار الإسلام السياسي، لتصبح العنصرية على أكثر من مستوى (العرق – الجنس – الدين – الطبقة الاجتماعية)، تلك العنصرية التي تختزل الوجود الإنساني في مظاهره المادية ليصبح أقرب إلى الحيوان بفصائله المختلفة التي لا تستطيع التعايش أو الحوار أو حتى التزاوج من بعضها البعض، للتأكيد على منطق الطائفة المنغلقة على ذاتها ولا يستطيع أحد أفرادها الخروج منها، إن تلك السمة تعد مسألة قدرية بالنسبة للحيوانات، أما البشر فهي مسألة مصنوعة يحاول ترسيخها النظام الحاكم لصالح جماعة بعينها لإبراز تميزها المطلق، وهناك نماذج متعددة لهذا عبر تاريخ البشرية ليس مجالنا في الاسترسال فيه، ولكن يكفينا مثال واحد للحيونة البشرية لإبراز العنصرية التي تأخذ الطابع القدري في كتابات عثمان في علاقة سندباد بعروسة البحر، والتي يرفضها المجتمع بسبب الاختلاف البيولوجي، وبهذا تصبح تلك العلاقة مستحيلة في ظل هذا المانع.

"ش١ : عايزها .... بحبها وبتحبنى. الحوت : عروسة البحر ؟. ش١ : هيه قالت كده ... إسالها . الحوت : عروسة البحر ..... ؟ ( يضحك بسخرية ). الأسماك : ( تغنى ) ... أكيد مجنون     هايم فى الكون. وعقله فيه جبن وزتون. أكيد مجنون . ش١ : ليه ؟ .... ليه ؟ . الحوت : انتوا لقاكم مستحيل .... انت بتنتمى لعالم ... وهيه لعالم تانى ... انت مخلوق برى .. وهيه مخلوقة بحريه ... . ش١ : بس الحب ما يعرفش مستحيل ولا موانع . الحوت : لكن ده مانع قدرى ... عارف يعنى ايه مانع قدرى ... ادى الله وادى حكمته . ش١: يعنى ايه ... خلاص ؟ . ف٤ : ( تجسد عروس البحر ) ( تمد يدها ) ..... بحبك .. ش١ : بحبك ( يظلوا فى الترديد ( تحول بينهم المجموعة وتفرقهم وهم يغنون). مج : ده شئ ممنوع.  ما فهش رجوع . ولا بناقش الموضوع. ده شئ ممنوع . ( الفتى والفتاه يرددون " بحبك "حتى البكاء و المج تحول بينهم )"[8] .

..................................................................................

بقلم / خالد رسلان

من كتاب (الطليعه في المسرح المصري من المركز الي الهامش)



[1] - ميلر ، سوزانا : سيكولوجية اللعب –ت : حسن عيسى –  عالم المعرفة – ع 120 - المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب- الكويت – 1987-ص 7.

[2] - سامح عثمان: القطة العميا- مخطوطة بيد المؤلف لم تنشر

[3] - المرجع السابق.

[4] - سامح عثمان: تسمحيلي بالرقصة دي- مخطوطة بيد المؤلف لم تنشر

[5] - سامح عثمان: فانتازيا الهروب- مخطوطة بيد المؤلف لم تنشر

[6] تسمحيلي بالرقصة دي: مرجع سابق.

[7] - القطة العميا: مرجع سابق.

[8] سامح عثمان: تسمحيلي بالرقصة دي.

 

ليست هناك تعليقات